mardi 24 décembre 2013

البيداغوجيا الديداكتيك المنهاج


منذ ظهور علوم التربية، والبحث متواصل من أجل عقلنة وترشيد العملية التعليمية التعلمية. ولقد استفادت هذه الأخيرة بالفعل، في كثير من جوانبها، مما وصلت إليه الدراسات والأبحاث في عدد من فروع علوم التربية، خاصة ما يتصل منها بشكل مباشر بالفعل التعليمي وبشروط إنجازه. وهكذا تم استثمار معطيات فلسفة التربية في تحديد هدفية التربية وقيمتها وإمكاناتها وحدودها. كما تم استثمار معطيات سيكولوجية التربية في تحديد أساليب التعامل مع المتعلم. وتم كذلك استثمار معطيات سيكوسوسيولوجية التربية في رصد الظواهر السيكوسوسيولوجية السائدة داخل الفصل، ووعي مستوى العلاقات بين المتعلمين والمدرس، وضبط عوامل تحسين مناخ الفصل ليكون أرضية تعلم ملائمة حقا. وتم أيضا استثمار معطيات سوسيولوجية التربية في إدراك ووعي البعد الاجتماعي الذي يتحكم في العملية التعليمية التعلمية ومختلف التأثيرات التي يحدثها فيها.

كل هذه الاستثمارات وغيرها، انعكست على العمل التعليمي داخل الفصل، فصار لزاما على الدارسين والممارسين لعملية التعليم، أن يتمثلوا عددا من المفاهيم والتصورات التي تستند إليها الممارسة التعليمية على ضوء الديداكتيك.

فما هو هذا الديداكتيك ؟ وكيف تم الانتقال من البيداغوجية إلى الديداكتيك ؟ وأي معنى للمنهاج الدراسي، من خلال أسسه ومكوناته، على ضوء الخطاب الديداكتيكي ؟

I ـ من البيداغوجية إلى الديداكتيك :
للمساهمة في تصحيح القاموس البيداغوجي المتداول من أجل تجنب الانسياق وراء ما أسماه بياجي بالتضخم السيمانتيكي Inflation sémantique، وجب الوقوف قليلا عند مفهومين أساسيين هما : البيداغوجية والديداكتيك العام، لنتناول بعد ذلك، كيفية الانتقال من الأول إلى الثاني.

1. مفهوم البيداغوجية La pédagogie:
تتكون كلمة " بيداغوجيا " في الأصل اليوناني، من حيث الاشتقاق اللغوي، من شقين، هما : Péda وتعني الطفل، و Agôgé وتعني القيادة والسياقة، وكذا التوجيه. وبناء على هذا، كان البيداغوجي Le pédagogue هو الشخص المكلف بمراقبة الأطفال ومرافقتهم في خروجهم للتكوين أو النزهة، والأخذ بيدهم ومصاحبتهم. وقد كان العبيد يقومون بهذه المهمة في العهد اليوناني القديم.

فقد أخذت كلمة " بيداغوجيا " بمعان عدة، من حيث الاصطلاح، حيث اعتبرها إميل دوركهايم E. Durkheim : نظرية تطبيقية للتربية، تستعير مفاهيمها من علم النفس وعلم الاجتماع. واعتبرها أنطوان ماكرينكو A. Makarenko(العالم التربوي السوفياتي) : العلم الأكثر جدلية، يرمي إلى هدف عملي. وذهب روني أوبير R. Hubert، إلى أنها ليست علما ولا تقنية ولا فلسفة ولا فنا، بل هي هذا كله، منظم وفق تمفصلات منطقية.

والملاحظ أن هذه التعاريف، وكثير غيرها، تقيم دليلا قويا على تعقد " البيداغوجيا " وصعوبة ضبط مفهومها، مما يدفع دائما إلى الاعتقاد أن تلك التعاريف وغيرها، ليست في واقع الأمر سوى وجهات نظر في تحديد مفهوم " البيداغوجيا ".

لذا، من الصعب تعريف " البيداغوجيا " تعريفا جامعا ومانعا، بسبب تعدد واختلاف دلالاتها الاصطلاحية من جهة، وبسبب تشابكها وتداخلها مع مفاهيم وحقول معرفية أخرى مجاورة لها من جهة أخرى. ولعل هذا ما يبرر سعي كل من غاستون ميالاري G. Mialaret وروبير لافون R. Lafon، إلى استعمال قاموس لغوي، يحاول أن يغطي ميادين متعددة متداخلة فيما بينها تداخلا شديدا. وهذا ليس بغريب، ما دامت علوم التربية لا تزال قائمتها مفتوحة لاستقبال علوم أخرى. ولكن الفعل والممارسة لا يستطيعان انتظار استكمال القواميس واستقراء المعاجم. ولهذا الاعتبار، نأخذ بوجهة نظر التي تميز في لفظ " بيداغوجيا " بين استعمالين، يتكاملان فيما بينهما بشكل كبير، وهما :
إنها حقل معرفي، قوامه التفكير الفلسفي والسيكولوجي، في غايات وتوجهات الأفعال والأنشطة المطلوب ممارستها في وضعية التربية والتعليم، على الطفل و الراشد .
إنها نشاط عملي، يتكون من مجموع الممارسات والأفعال التي ينجزها كل من المدرس والمتعلمين داخل الفصل.

هذان الاستعمالان مفيدان في التمييز بين ما هو نظري في البيداغوجيا، وما هو ممارسة وتطبيق داخل حقلها.

2. مفهوم الديداكتيك La didactique :
تنحدر كلمة ديداكتيك، من حيث الاشتقاق اللغوي، من أصل يوناني didactikos أو didaskein، وتعني حسب قاموس روبير الصغير Le Petit Robert، " درٌّس أو علٌّم " enseigner. ويقصد بها اصطلاحا، كل ما يهدف إلى التثقيف، وإلى ما له علاقة بالتعليم. ولقد عرف محمد الدريج، الديداكتيك في كتابه " تحليل العملية التعليمية "، كما يلي : " هي الدراسة العلمية لطرق التدريس وتقنياته، ولأشكال تنظيم مواقف التعليم التي يخضع لها المتعلم، قصد بلوغ الأهداف المنشودة، سواء على المستوى العقلي المعرفي أو الانفعالي الوجداني أو الحس حركي المهاري. كما تتضمن البحث في المسائل التي يطرحها تعليم مختلف المواد. ومن هنا تأتي تسمية " تربية خاصة " أي خاصة بتعليم المواد الدراسية (الديداكتيك الخاص أو ديداكتيك المواد) أو " منهجية التدريس "( المطبقة في مراكز تكوين المعلمين والمعلمات)، في مقابل التربية العامة (الديداكتيك العام)، التي تهتم بمختلف القضايا التربوية، بل وبالنظام التربوي برمته مهما كانت المادة الملقنة ".
ورغم ما يكتنف تعريف الديداكتيك من صعوبات فإن معظم الدارسين المهتمين بهذا الحقل، لجئوا إلى التمييز في الديداكتيك، بين نوعين أساسيين يتكاملان فيما بينهما بشكل كبير، وهما :
ـ الديداكتيك العام : يهتم بكل ما هو مشترك وعام في تدريس جميع المواد، أي القواعد والأسس العامة التي يتعين مراعاتها من غير أخذ خصوصيات هذه المادة أو تلك بعين الاعتبار.
ـ الديداكتيك الخاص أو ديداكتيك المواد : يهتم بما يخص تدريس مادة من مواد التكوين أو الدراسة، من حيث الطرائق والوسائل والأساليب الخاصة بها.

لكن هناك تداخل وتمازج بين الاختصاصين، بل لابد من تضافر جهود كل الاختصاصات في علوم التربية بدون استثناء. إن التأمل في أي مادة دراسية، تجرنا إلى اعتبارات نظرية شديدة التنوع : علمية، سيكولوجية، سيكوسوسيولوجية، سوسيولوجية، فلسفية وغيرها. كما تفرض علينا في الوقت ذاته، العناية ببعض الجزئيات والتقنيات الخاصة، وبعض العمليات والوسائل التي يجب التفكير فيها أولا عند تحضير الدروس، ثم عند ممارستها بعد ذلك. فلا بد من تجاوز الانفصال والقطيعة بين النظريات العامة والأساليب العملية التطبيقية. فعلينا كمدرسين، ألا نحاول الوصول إلى أفضل الطرق العملية فحسب، بل نحاول أن نتبين بوضوح، ما بين النتائج التي نتوصل إليها عند ممارسة الفصل الدراسي، وبين النظريات العامة من علاقة جدلية.

3. الانتقال من البيداغوجيا إلى الديداكتيك :
يقودنا تحديد المفاهيم إلى تفسير الانتقال من البيداغوجيا الى الديداكتيك، حيث يقول فرانسوا تيستو F.Testu، في كتابه: من السيكولوجيا إلى البيداغوجيا : " إن الوضعية البيداغوجية، تتميز في الواقع بخصوصية وغنى، لدرجة أنه ينبغي، حسب بياجي J.Piaget، معالجتها لذاتها بأكثر تجريبية ممكنة، مستعملين ميتودولوجية السيكولوجيا. وبتعبير آخر، فإن البيداغوجية التجريبية وحدها قادرة على أن تؤسس الديداكتيك".

ويتضح من هذا القول، أن البيداغوجية التجريبية هي التي كانت وراء ظهور الديداكتيك. وبناء عليه، يمكن إعادة التصور العام لحركية العلم البيداغوجي، والقول بأن الانتقال كان في البداية أصلا، من الفلسفة إلى السيكولوجيا، ومن السيكولوجيا إلى البيداغوجيا، ثم من البيداغوجيا إلى الديداكتيك. يبقى هنا أن نتساءل. هل بإمكان تجاوز الديداكتيكي للبيداغوجي ؟ وبالتالي، هل الديداكتيك يلغي البيداغوجيا ويقيم معها القطيعة ؟ أم أنه يبقى على الدوام بحاجة إليها ويشتغل لفائدتها ؟ إن هذه التساؤلات هي التي تجعلنا نعتقد أن في الإمكان تصور الحركة في الاتجاه المعاكس، أي من الديداكتيك إلى البيداغوجيا، انطلاقا من جدلية قائمة بينهما لا تلغيها انشغالات واختصاصات كل منهما.

II ـ الديداكتيك والمنهاج الدراسي :
مع تركيز الاهتمام بالمصطلح التربوي، وسعي الدارسين نحو تحديده بشكل دقيق، وتحديد ما بين كثير من المفاهيم البيداغوجية المستعملة من صلة أو تداخل، ظهر الانشغال بمحاولة إبراز العلاقة بين مفهوم الديداكتيك ومفهوم المنهاج، وارتباط كل منهما بالآخر. ونتيجة لذلك، صرنا نجد في الإنتاجات التربوية المعاصرة، إشارات إلى تلازم المفهومين، لحد اعتبر معه المنهاج الدراسي أحيانا مجالا يغطي الاهتمامات المشكِّلة لموضوع الديداكتيك. وانطلاقا من هذه العلاقة، نتساءل عن معنى مفهوم المنهاج الدراسي، وعن أسسه ومكوناته.

1. مفهوم المنهاج الدراسي Curriculum:
تعود لفظة منهاج إلى أصل إغريقي، وتعني سباق الخيل أو النهج أو الطريقة التي يسلكها الفرد. وقد وظف اليونان المنهاج في التربية، وكان مرتبطا بالفنون السبعة: النحو، البلاغة، المنطق، الحساب، الهندسة، الفلك والموسيقى. وقد عرِّف المنهاج من زوايا مختلفة، وسنقتصر على تعريف طارق محمد، الوارد في معجم علوم التربية، مع تصرف طفيف: " يعبر المصطلح منهاج في استعماله الفرنسي، عن النوايا أو عن الإجراءات المحددة سلفا، لأجل تهييء أعمال بيداغوجية مستقبلية. فهو إذن خطة عمل، تتضمن الغايات والمرامي والأهداف المقصودة، والمضامين والأنشطة التعليمية، وكذا الأدوات الديداكتيكية، من طرائق التعليم وأساليب التقويم. وعلى عكس الأدبيات التربوية الفرنسية، تميل الأدبيات الإنجليزية إلى تعريف مفهوم المنهاج، كفعل وواقع، يمارس من طرف المدرس وتلامذته في القسم ".
ونظرا لتداخل بعض المصطلحات القريبة من مفهوم المنهاج، نقف عند بعضها لمحاولة إبراز ما يمكن تسجيله من فرق بينها وبينه.

ــ مصطلح المنهج La méthode : هو مجموع المراحل أو الخطوات التي يتبعها الباحث في دراسة موضوع ما أو ظاهرة كيف ما كان حقل انتمائها. وفي هذا الإطار، تتعدد المناهج بحسب موضوع الظاهرة المدروسة، فنجد مثلا المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج التجريبي...إلخ.
ــ مصطلح منهجية التدريس Méthodologie d’enseignement : هي عبارة عن إجراءات تنظيمية دقيقة لمحتوى المادة أو الخبرة المراد تبليغهما للمتعلمين خلال الدرس. وتتبع في مثل هذا التنظيم أسس، ترتبط من جهة، بطبيعة المادة التعليمية وخصوصيتها، ومن جهة أخرى، بالتصور العام الذي تنجز في إطاره عملية التدريس(ديداكتيكية المواد أو الديداكتيك الخاص).
ـ مصطلح البرنامج(المقرر) Le programme : يرتبط البرنامج بالمحتوى المراد تبليغه للمتعلمين، وهو أحد مكونات المنهاج الدراسي. يتكون عادة من موضوعات مادة تعليمية معينة التي يتعين تدريسها خلال فترة زمنية، تحدد في الغالب في سنة دراسية بكاملها.

2. أسس المنهاج الدراسي :
يعتبر المنهاج الدراسي جزء لا يتجزأ من المشروع التربوي العام الذي تظل فلسفة التربية توجهه بشكل دائم، داخل المجتمع، إلى جانب المساهمات الفعالة لباقي علوم التربية، لأجرأة هذا المشروع. ومن ثمة، فإن هناك أسسا محددة، تؤطر المنهاج، فيستنبط منها تصوراته ومكوناته. تتلخص هذه الأسس في الجدول التالي :

- أسس فـلسـفية: هي مجموعة من القناعات والتصورات العامة التي تسير وفقها العملية التعليمية، وكذا المواقف المحددة من المتعلمين، ومما ينبغي أن يتعلمون أكثر من غيره. ورغم اختلاف وتباين توجهات نماذج من الفلسفات، فهي تلتقي كلها في توجيه المنهاج الدراسي نحو تحديد الغايات والأطر العامة التي يجب أن ينطلق منها كل مكون من مكوناتها.

- أسس اجتماعية اقتصادية: هي مجموعة من الخصائص الحضارية والمقومات الاقتصادية للمجتمع، عبر صيرورته التاريخية المتجدرة في تاريخه السياسي والاقتصادي وتراثه الثقافي وقيمه الدينية والأخلاقية، وتفاعله مع الحضارات المعاصرة له. فالمحتويات الدراسية والخبرات المراد تبليغها هي خبرات المجتمع، تعبر بدقة عن واقعه، وكذا عن طموحاته.

- أسس سيكولوجية تربوية: هي مجموع المعطيات المتصلة بالخصائص السيكولوجية للمتعلم :
ـ كطبيعة المرحلة العمرية للمتعلم وحاجاته المختلفة.
ـ والأساليب والتقنيات التي تساعد المتعلم على التعلم بدافعية وفعالية.
ـ وتنظيم الخبرات التعليمية وفق مستواه العمري والعقلي.
ـ وأساليب قياس درجة التعلم، تضمن لديه قدرا من الموضوعية والصدق والثبات.

- أسس معرفية علمية: تتصل بما وصلت إليه الإنسانية من تطور في حقول معرفية متنوعة، يستفيد منها المنهاج الدراسي، على بلورة خبرات ومحتويات تعليمية، تقدم للمتعلمين وفق برنامج محدد من جهة، ومن جهة أخرى، يستعين بها في النظر إلى العملية التعليمية التعلمية، بكيفية تجبر هذه الأخيرة على أن تخضع إلى حقائق معرفية علمية صارمة.


3. مكونات المنهاج الدراسي :
إذا كان المنهاج الدراسي بالتعريف، نسق أو كلية من العناصر أو المكونات والوظائف المترابطة فيما بينها بعلاقات وعمليات التي تقود، بفعل صيرورتها الداخلية، إلى تحقيق غاية ما، أمكن تحديد مكوناته في الأهداف والمحتويات والطرق والوسائل والتقويم والدعم، إلى جانب المدرس والمتعلم والعلاقة بينهما، في إطار مؤسسة تعليمية معينة. وتتشكل هذه المكونات من الأفعال التي يقوم بها كل من المدرس والمتعلم، في علاقة مع المادة الدراسية وغيرها، انطلاقا من مظهر بنائي، يحدد شبكة العلاقات بين المكونات ومواقعها، وانطلاقا من مظهر وظيفي، المحدد بالعمليات والمهام التي تقوم بها المكونات المذكورة، دون أن ننسى العلاقة التي تربطه جدلا بالوسط الاجتماعي.

فالنسق التربوي يستمد غاياته وتوجهاته من المحيط الاجتماعي، ببنياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تشكل السياسة التربوية لذلك النسق، ثم يؤثر ويوجه المنهاج الدراسي في أهدافه ومضامينه ووسائل إنجازه وتقويمه ودعمه. ويؤثر المنهاج الدراسي بدوره، من خلال تلك الطاقة البشرية التي يكونها معرفيا ومهاريا ووجدانيا ومنهجيا، في الوسط التربوي من جهة، والمحيط الاجتماعي من جهة ثانية.

نظريات التعلم الحديثة

                                               نظريات التعلم الحديثة
      التعلم عملية أساسية في الحياة،لا يخلو منها أي نشاط بشري ،فهي جوهر هدا النشاط،ولهذا تمثل نظرية التعلم جانبا هاما من حياة كل فرد ومجتمع.
      ونظرا لدور ومكانة التعلم في حياتنا ،فقد اهتم به الناس على اختلاف مشاربهم،وبنفس الوقت انكب العلماء والدارسون على تبين طبيعته ومعرفة آلياته والوقوف على الشروط المؤثرة إيجابا وسلبا سعيا وراء الوصول  الى قوانينه الخاصة،وقد انقسموا حيال دراسة مظاهره إلى اتجاهات وتيارات على شكل ما يعرف باسم نظريات التعلم، ونظريات التعلم عديدة ومختلفة لكن على العموم يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مدارس أساسية:
1/المدرسة السلوكية الترابطية أو الاقترانية
2/
المدرسة الشكلية الجشطالتية أو المجالية
3/
المدرسة المعرفية البنائية أو التكوينية
فما هو التعلم؟وكيف نتعلم؟وما سيرورات التعلم؟وبالتالي ما هي الاختلافات الأساسية حول طبيعة التعلم لدى هده المدارس؟
      لا يختلف اثنان حول كون التعلم نشاط بموجبه يكتسب الفرد المعارف والمواقف والمهارات  التي بفضلها يشبع حاجاته ودوافعه و يحقق توازنه والتعلم ليس مجرد سلوك بيولوجي كالمشي يحدث نتيجة اكتمال النمو ،بل انه فاعلية مشروطة بالنضج والتدريب والقابلية والدافعية الو راثية أو المكتسبة.
المدرسة السلوكية:نشا هدا الاتجاه كمنظور علمي ومشروع سيكولوجي  من منطلق السلوك الذي يعبر عن قطيعة ابستمولوجية داخل حقل علم النفس حاولت أن تؤسسها هده المدرسة مع موضوع الشعور والاستبطان والخبرة الداخلية ومفاهيم الرغبة والنية والقصد.
         وكلمة سلوك تبدو مصطلحا شائعا ومتداولا ،فالبصر والسمع والإدراك والتخيل والتصور طرق للسلوك ،فأن تسلك يعني أن تفعل،والسلوك عند هده المدرسة قوامه المثير أو المنبه  ثم الاستجابة ،وليس التعلم ،في الحقيقة ،سوى عملية ربط واقتران عضوي بين المثيرات والاستجابات ،وهده الارتباطات هي الوحدات الأساسية للسلوك البشري.
وعموما يمكننا أن نميز داخل هده المدرسة بين ثلاثة تيارات:
السلوكية الكلاسيكية مع بافلوف
السلوكية الجديدة مع واطسون وثورندايك
السلوكية الاجرائية مع سكينر
    حاول بافلوف من خلال تجاربه الفيزيولوجية الميدانية الوقوف على قوانين ثابتة للاشراط
قانون المثير والاستجابة،حيث أدرك أن لكل سلوك مثير ،و ادا كانت العلاقة بين المثير والاستجابة سليمة ، كان السلوك سويا
قانون التعزيز والتدعيم عن طريق الإثابة
قانون الكف الداخلي أو الانطفاء أي ضعف السلوك المتعلم وخموده ادا لم يمارس ويعزز
قانون العادة أو التكرار وهي رابطة اقترانية بين المثير والاستجابة
قانون التعميم بحيث ادا تعلم الفرد استجابة و تكرر الموقف فانه لا محالة يعمم هده الاستجابة على استجابات أخرى مشابهة
قانون التمييز :ادا كان التعميم استجابة للتشابه فان التمييز استجابة للاختلاف
قانون التعلم الذي هو تغير في السلوك نتيجة الخبرة والممارسة
قانون إعادة التعلم ويحدث بعد الانطفاء حيث يتم تعلم سلوك جديد
أما واطسون،فيرى أن علم النفس هو علم السلوك ،وان الطريقة الوحيدة لدراسته موضوعيا هي الطريقة التجريبية الموضوعية
إن معظم سلوكيات  الكائن الإنساني الحي متعلمة ومكتسبة سواء من المحيط الطبيعي أو الاجتماعي ،وهي على هدا الأساس قابلة للتغيير والتعديل ،وبالتالي يمكن ضبطها والتنبؤ بها ومعرفة سيرورتها الدقيقة ،ادا تمكنا من إدراك المنبهات التي تثيرها ،ومن هده الزاوية يتبين لنا أن كل تعلم قائم، بالضرورة ، على منعكس شرطي،وقد تأثر واطسون بنظرية تورندايك التي تقر بان السلوك التعليمي، من منطلق قانوني المران والأثر، ليس إلا تعلما بالمحاولة والخطأ.
إن قدرة الكائن على الاستجابة لعلامة مبدئية بديلة عن العلامة الأصلية الطبيعية دليل واضح على الحيوية في تقدم التكيف لديه مع المحيط.
إن الأصوات اللغوية والإشارات والرموز وأنساق التواصل ليست ،في الواقع،إلا اشراطا من مستوى أعلى لا علاقة لها بالمنبهات الطبيعية،وهدا هو جوهر وأساس العمليات التربوية   وبناء المعرفة والثقافة في بعدها المؤسسي ،إلا أن أعلى درجات الفعل المنعكس تبقى محدودة عند الحيوان كثيرة عند الإنسان.
أما سكينر رائد السلوكية الاجرائية فيرى أن علم السلوك ليس مستقلا عن علم الأعصاب بل ينبغي أن ينظر إليه كعلم مستقل بداته.
     إن السلوك الإجرائي هو السلوك الذي يمكن تتبعه وبناؤه عن طريق التعزيزات ،وكلمة إجراء بديل عن الفعل المنعكس الشرطي ،إنها استجابة مقترنة بالمعزز  وليس بالمثير الذي يصحبها بمعنى آخر إنها استجابة  تنتج معززا يؤثر على مسار انبنائها أو انطفائها،والتعلم عند سكينر هو نتاج العلاقة بين تجارب المتعلم والتغير في استجاباته ،إن كل تجربة تحدث  تغيرا في استجابات الكائن ومن ثمة تنبني العادة ،أي السلوك المراد بناؤه ،والدي هو،في النهاية،ليس إلا ثمرة العلاقة الجدلية بين التجربة والتغير في الاستجابات ،فاستجابة الكائن تتقوى وتتعزز وتكتمل كإجراء بتزايد المثيرات المعززة الايجابية ،كما أنها تتقلص وتنطفئ بالمثيرات السلبية.
إن التعلم الايجابي الفعال يبنى بتعزيز الاداءات القريبة من السلوك النمطي ،أما التعلم السلبي المرتبط بالعقاب البدني فيبقى،عادة، بعيدا  عن انبناءات السلوكات الاجرائية كهدف أساسي للعملية التعليمية التعلمية.
المدرسة الجشطالتية:قامت هده المدرسة على أنقاض المدرسة السلوكية حيث انتقدت الاتجاه نحو تفتيت الإدراك إلى جزئيان صغيرة ،إن الفرد يدرك الموقف كوحدة واحدة وليس كجزئيات مترابطة ،اد الخبرة ،عادة ،تأتي في صورة مركبة  فما الداعي إلى تحليلها  والبحث عما يربط بعضها البعض،وهدا التصور نجد جذوره في الفلسفة اليونانية عند اناكساغوراس الذي اعتبر أن الوحدة الأساسية العظمى في الكون هي وحدة العلاقات.
ومفهوم الجشطالت يحيلنا دلاليا على الشكل أو الصيغة أو النمط أو الهيئة أو المجال الكلي انه كل مترابط الأجزاء باتساق وانتظام فكل عنصر أو جزء له مكانته ودوره ووظيفته التي تتطلبها طبيعة الكل.
يقول ليفن في تحديده هدا المفهوم:انه تنظيم عام تكون جزئيا ته مرتبطة ارتباطا فعالا بحيث ادا تغير احد أجزائه يتبع هدا التغيير تغيير في الشكل الكلي العام.
    ولعل المفهوم الرئيسي الذي ركزت عليه هده المدرسة  هو أن إدراك موضوع م يحدده المجال الكلي الذي يوجد فيه ،وان الكل ليس إلا مجموع الأجزاء وان الجزء يتحدد بطبيعة الكل وان الأجزاء تتكامل في حدوث كلية ،وكذلك مفهوم الاستبصار الذي يعني لحظة التدبر التحليلي الذي يصل بالمتعلم  إلى اكتساب الفهم أي فهم الموقف الإشكالي موضوع التعلم نتيجة ضبط عناصره وإعادة تنظيم وهيكلة تلك العناصر بشكل جيد الشيء الذي يسمح بتجاوز الغموض والتناقض وتحقيق الاستبصار والفهم الحقيقي و الانتقال أي قدرة المتعلم على نقل لحظة استبصاره  وتعميمها على مواقف مشابهة أو متنوعة  فالاستبصار الحقيقي هو الذي ينتقل إلى المجالات المرتبطة أو الملائمة.
     إن تعزيز التعلم ينبغي أن يكون دافعا داخليا ،أي نابعا من الدات ،فالمتعلم الذي ينتصر على موقف إشكالي ،ويفك مختلف أبعاد بنيته ومبادئ انتظامه ويحقق فهم المعنى الحقيقي للموقف الإشكالي المطروح أمامه،أي الاستبصار بالموقف يسعد بلدة باطنية سعادة تجاوزه للالتباس والغموض إنها لحظة تحقيق التوازن الطبيعي،وهدا يشكل عامل تعزيز داخلي فعال ودائم للتعلم.
    إن الاستبصار ،في الحقيقة،انتقال من وضعية اللامعنى إلى المعنى على مستوى إدراك المتعلم ،أما التعلم بالمحاولة والخطأ كما يرى كوفكا يعني في المقام الاول أن لاشيء جديد يمكن أن يتعلم انه ليس إلا استبعاد بعض الاستجابات الخائبة والإبقاء على ماثبت منها أي الصائبة،وهده طريقة مضللة وعمياء في التعلم  لدى الحيوان  لأنه لا يرى كيف وصل إلى الهدف.
     إن التعلم يرتبط بادراك الكائن لداته ولموقف التعلم ،فإدراك حقيقة المجال وعناصره والانتقال من الغموض وانعدام المعنى إلى فهم مبادىء التنظيم والحصول على الوضوح والمعنى  يعتبر النمط النموذجي للتعلم.
إن سلسلة الأفعال الانعكاسية المترابطة ميكانيكيا ،ليست إلا صورا جوفاء فارغة،ومن هنا فالإشكال المركزي ليس كيف تبني الكائنات مجموعة من التداعيات الآلية الحرة أو المقيدة  بين المثيرات والاستجابات  ولكن كيف تنمي وتطوع استبصارها لواقعها الخارجي.
       فالتعلم ادن  سيرورة دينامية لأنه يرتبط،أساسا ، بتشكيل انطباعات صادقة عن مادة التعلم ،وهده الارتسامات   ليست ،في الواقع، إلا ادراكات استبصارية لبناء المعرفة واكتساب المهارة  التي تقتضي البدء بالإطار الكلي حسب فرتيمر،دلك أن الذاكرة تشتغل  وفق سيرورة الكل المنظم.وهدا لا يتم إلا بإعادة بنينة المعطى أو الموقف موضوع التعلم،اد لا يعقل  أن يستقبل المتعلم المعرفة جاهزة أو المشكلة أو الموقف  دون إحداث أثره وفعله فيه.
   إن حقل التدريس ليس شيئا آخر غير تنظيم شروط التعلم بالاعتماد على مبدأ ترسيخ الاستكشاف والبحث الدؤوب  والإدراك التحليلي لكل نشاط ديداكتيكي ،فالممارسة الديداكتيكية تتجاوز محورية  المادة المعرفية /المدرس إلى محورية المتعلم/النشاط المعرفي.
    المدرسة البنائية: أما بياجيه فيربط التعلم بعمليتي الاستيعاب والتلاؤم التي تباشر بها الدات الفاعلة  اشتغالها على الموضوع المعرفي  ودلك بغية خلق نوع من التوازن اللازم  لوجودها الدينامي.إن التعلم الحقيقي هو ،في الواقع،سيرورة وعي بنائية بين الدات العارفة وموضوع المعرفة وغايتها القصوى هي خلق النسقية التكيفية الايجابية المقترنة بتحقيق الإشباع أو التوازن  أمام التفاعل الايجابي مع العالم الخارجي.
إن مفهوم التكيف  هو غاية التطور النمائي في نظر هده المدرسة النشأوية دلك أن التعلم الحقيقي ما هو إلا عملية تكيف للعضوية مع معطيات وخصائص المحيط المادي والاجتماعي عن طريق استيعاب واستدماج  المعارف والمعلومات  ضمن أنسجة العضوية لتتأقلم وتصبح معطيات مألوفة ،بحيث تتطابق وتتلاءم مواقف وسلوكيات الفرد مع الموقف أو الوسط وصولا إلى وضعية الانسجام  والتماهي مع الوسط أو المحيط.
إن المعرفة لا تكتسب أو تستقبل جاهزة  من الخارج،وليست نسخا أو انعكاسا آليا للواقع ،كما أنها ليست ارتسامات أو انطباعات تجريبية  بمفهوم لوك أو المدرسة المادية التجريبية،كما أنها  لاتمت للموروث الفطري القبلي بصلة ،بل إن التعلم
     يؤسس ويبنى حسب بياجيه عن طريق التمثل أي هدم المعارف القبلية الخاطئة العالقة بالذاكرة من اجل تشييد وبناء معرفة جديدة قوامها  المنطق والعقل أي إعادة بناء  الموضوع في الفكر استنادا للخريطة المعرفية التي يبنيها الفكر البشري الحر عن عالم الطبيعة والناس والأشياء
إن التعلم عند البنيوية التكوينية لا ينفصل عن الحركة الدياكرونية  وعن التطور النمائي للعلاقة الوطيدة بين الدات  العالمة وموضوع التعلم ،انه تطور وعي الطفل أو الإنسان عامة  بالإجراءات  والصيرورات التي يدرك بها المواضيع والأشياء والمعارف . وهو يرتبط باشتغال الدات على الموضوع وليس باقتناء معارف عنه  الشيء الذي يمكنه من التقنيات والمناهج والوسائل التي تؤهله لبناء الإجراءات والمفاهيم على أساس استنتاجات استدلالية منطقية تستمد مادتها من خطاطة الفعل ،لدا يرى بياجي أن الخطأ بدوره شرط للتعلم لأنه صيغة استدلالية من صيغ التعلم تقتضي
      السؤال عن السبب  كشرط لإبعاد الخطاء والزلات دلك أن فهم المتعلم لأخطائه وبناء أسئلته بنفسه هو شكل من أشكال فهم الموضوع أو الظاهرة،انه تمثل لها وتمثل للإجابة .
إن السؤال الذي يبنيه التلميذ هو سيرورة تمثل وفهم ،فالمتعلم الحقيقي يرتبط بالتجربة وليس بالتلقين ،وهدا يتم أساسا عن طريق تجارب النشاط الطفلي الداخلي ،وكل استيعاب هو هيكلة واكتشاف للواقع.
إن التعلم عند بياجي هو  نفي وتجاوز للاضطراب ،فاستيعاب المتعلم للمعرفة الجديدة والتلاؤم معها  يقتضي ،بادىء دي بدء، تطبيق فلسفة الإلغاء والرفض وتطبيق النفي على مستويات الفهم القبلية وكل المعارف والموروثات الجاهزة  والسابقة ،وتتطور  أشكال النفي والتمرد بتطور المراحل النمائية  إلى أن تصل إلى المرحلة الصورية الاستنباطية  أو ما يعرف بالذكاء المجرد.
ومادام الذكاء الحسي العملي  سابق على  الذكاء الصوري المجرد،فانه لا يمكن  البتة تصور بناء المفاهيم والتصورات  والمعلومات  وتقعيدها إلا على أسس الذكاء الإجرائي ،فالمعرفة  حسب هده المدرسة البنائية  تبنى ،وليست عملية تراكم آلي.
    ومن هده الزاوية يرى ،بياجي،أن على المتعلم أن يكون المفاهيم ويضبط بالمحسوس الأجسام والأشكال والعلاقات الرياضية ،ثم الانتقال بها إلى التجريد وسيرورات الاستدلال الاستنباطي ،ويكتسب السيرورات الإجرائية  للمواضيع قبل بنائها ويقتنع بأهمية التكوين الذاتي  اعتمادا على تبني منطق التفكير والمقاربة الاستكشافية عوض الاستظهار العقيم للأفكار والنظريات وإلغاء المعرفة المشوشة  .
استنتاج عام:
   إن هده النظريات وان  كانت تفترق وتختلف  على مستوى  رؤية وتصور طبيعة قوانين اواليات التعلم وميكانيزماته  وأسسه ومبادئه ،فإنها تتقاطع  وتلتقي  وتتفق حول  كون التعلم يبقى نشاطا اكتسابيا به تنسج الدات ملحمة وجودها وتثبت توازنها الطبيعي مع الزامات البيئة واكراهات الواقع.
فادا كانت المدرسة السلوكية ترى في التعلم مجموعة من ردود الأفعال الاستجابية  المقترنة  والمشروطة  تحكميا بمثيرات البيئة ومنبهاتها ، والتي تكتسب بها العضوية سلسلة من الفئات الاستجابية الإجرائية الأدائية بفعل عملية الاشراط والتعزيز والتدريب والمحاولة والخطأ،وادا كانت  الجشطالتية تربط التعلم بتحقيق الاستبصار في المجال الكلي لموضوع التعلم  والوصول إلى المعنى الحقيقي له  ولمبادئه التنظيمية والقدرة على تعميم هدا الفهم  والاستبصار على مواقف أخرى في غياب أي تعزيز خارجي إلا الاستبصار نفسه ،فان النظرية البنائية تقرن التعلم بفعل
    الأجهزة المعرفية للدات إن التعلم حسب رأيها نشاط يبنى ،وهو مقرون بتطور القدرات والامكانات الذاتية حسب مراحل النمو .إن التعلم هو تطوير الإجراءات الداخلية كتنظيم ذاتي يحقق التوازن والتكيف للعضوية مع الواقع.
وادا كانت النظرية البنائية تركز على أن المتعلم  هو العنصر الفعال في العملية التعليمية التعلمية ،فان السلوكية تجعل منه مستجيبا للمؤثرات الخارجية،وادا كانت النظرية البنائية تركز على الإجراءات  الداخلية للتفكير البشري ،فان السلوكية تربط التعلم بالتغير في السلوك فكل تغير في سلوك المتعلم يشي بتعلم جديد،وادا كانت البنائية المعرفية  تركز على العمليات المعرفية الداخلية للمتعلم ،فان السلوكية تعنى بالسلوك الخارجي الظاهر للمتعلم.
     هكذا نرى أن دور المعلم السلوكي الذي ينهج طريقة وبيداغوجيا  التدريس بالأهداف هو تهيئة بيئة التعلم لتحبيب وترغيب المتعلم لتعلم السلوك المراد تعلمه،بينما يختلف دور المدرس الذي  يروم مناهج وبرامج التدريس بالكفايات أو الطرق البنائيةو المعرفية الحديثة فهو يسعى جاهدا للدفع بالمتعلم إلى البحث والاكتشاف وبناء معرفته بالاعتماد على امكاناته الذاتية  و تمثلا ته الطبيعية  قدراته المعرفية المحدودة .